في أقصى ساحة المسجد خلع الشيخ جلال ساقه، واصطف له الصغار أقواسًا، «احكِي لنا حدوتة، أيوة حدوتة كوز الدر اللي فضل يكبر ويكبر لحد ما بقى راجل بشنبات، وسنبلة القمح اللي فضلت تسمن وتتدور لحد ما بقت ست الحسن والجمال، والنحلة اللي كانت بتنقل رسايل الغرام بينهم في غيط الله»، استلّ الشيخ جلال من حرامه نايًا مزينًا بأفرع من حرق النار، وسكنت الحواسّ الصغيرة لدى أصابعه الغلاظ، يشهق تحت أناملها ثقب ويزفر آخر محررًا النغم الحبيس فورات من دخان ملون، لم يكن العزف حزينًا كقلب العازف، ولا بهيجًا بهجة الأولاد، كان شرائط ملونة تصاعد من الثقوب، سرعان ما تكاثف بخارها رجلا ضخمًا يترقص بحركات مضحكة.. «انت، والله هو انت يابا جلال، فين الجبة والعمة؟»، ثم تفتت الضباب وتشكل أبدانًا رخوة من وبر أبيض كملائكة، شهق الأولاد ودوَّى تصفيقهم، أعقبها بفئران وردية عارية من الشعر، ثم حيّة رفيعة التفَّت على الناي، جعل ينفض ذيلها كلما لامس أنفه فتدفعه من ثقب وتخرجه من آخر، طرق الرجل الأرض بالناي مرات حتى اختفت الأفعى، من أوسع الثقوب طارت ورقة شجر مبرومة وانفزع الأولاد من شرر راح يومض من فتحات الناي مثل قصف البرق تتصادم معه النغمات في عشوائية، وانسرق الصغار إلى دوار من السحر الأرضي، طفا بهم خفافًا على وسادات من الهواء حتى أن البنات صرخن وبال الأولاد في جلاليبهم لدى ندف تطايرت كقطن يجري تنفيضه بهيئة بشر متشابهين، راحوا يسبحون في فضاء المسجد قبل أن يمتصهم الهواء، وظلت وجوه الأولاد معلقة باتجاه كتلة ضخمة من ضباب أزرق تتشكل حصانًا مجنجًا يندفع طائرًا عبر باب المسجد فصرخوا فرحين وصفقوا طويلًا، مما لفت إليهم جلاس المكتبة البعيدين، وحدا بأحدهم لأن يقول: «إيه شغل العيال ده يا شيخ جلال، انت في بيت الله» وكان الموظف العمومي؛ توقف الشيخ جلال عن العزف سائلًا: «ألا يا صبري افندي قانون عدم الجمع بين وظيفتين عقوبته جامدة أوي كده؟»، «ليه يا شيخ جلال؟ ناوي تشتغل حاوي؟»، فأشار الشيخ جلال إلى حجره شاكيًا بغاية الجدية: «أصل ابن الأبالسة ده من يوم ما صدر القانون وهو مش راضي غير يتبول بس»، ثم رفع الناي إلى شفتيه غافلا عن موجة الضحك التي انفجرت هناك.